سورة النحل - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


لما ذكر الله تعالى كفار مكة الذين أقسموا أن الله لا يبعث من يموت، ورد على قولهم، ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح في سبب الآية، لأن هجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية، وقالت فرقة سبب الآية أبو جندل بن سهيل بن عمرو.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف، لأن أمر أبي جندل كان والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وقالت فرقة نزلت في عمار وصهيب وخباب وأصحابهم الذين أوذوا بمكة وخرجوا عنها.
قال القاضي أبو محمد: وعلى كل قول فالآية تتناول بالمعنى كل من هاجر أولاً وآخراً. وقرأ الجمهور {لنبوئنهم} وقرأ ابن مسعود ونعيم بن ميسرة والربيع بن خثيم وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب. {لنثوينهم} وهاتان اللفظتان معناهما التقرير، فقالت فرقة: الحسنة عِدَةٌ ببقعة شريفة كشف الغيب أنها كانت المدينة، وإليها كانت الإشارة بقوله {حسنة} وقالت فرقة: الحسنة لسان الصدق الباقي عليهم في غابر الدهر.
قال القاضي أبو محمد: وفي {لنبوئنهم} أو {لنثوينهم} على هذا التأويل في لسان الصدق تجوز كثير واستعارة بعيدة، وهذا على أن {حسنة} هي المباءة والمثوى، وأن الفعل الظاهر عامل فيها، وقال أبو الفتح: نصبها على معنى نحسن إليهم في ذلك إحساناً، وجعلت {حسنة} موضع إحساناً، وذهبت فرقة إلى أن الحسنة عامة في كل ما يستحسن أن يناله ابن آدم وتخف الاستعارة المذكورة على هذا التأويل، وفي هذا القول يدخل ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يعطي المال وقت القسمة للرجل من المهاجرين ويقول له: خذ ما وعدك الله في الدنيا، {ولأجر الآخرة أكبر}، ثم يتلو هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: ويدخل في هذا القول النصر على العدو وفتح البلاد، وكل أمل أبلغه المهاجرون، وأجر الآخرة هنا إشارة إلى الجنة، والضمير في {يعلمون} عائد إلى كفار قريش، وجواب {لو} مقدر محذوف، ومفعول {يعلمون} كذلك، وفي هذا نظر، وقوله {الذين صبروا} من صفة المهاجرين الذين وعدهم الله، والصبر يجمع عن الشهوات وعلى المكاره في الله تعالى، والتوكل تتفاضل مراتبه، فمطيل فيه وذلك مباح حسن ما لم يغل حتى يسبب الهلاك، ومتوسط يسعى جميلاً، وهذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «قيدها وتوكل»، ومقصر لا نفع في تقصيره وإنما له ما قدر له، وقوله {وما أرسلنا من قبلك} الآية، هذه الآية رد على كفار قريش الذين استبعدوا أن يكون البشر رسولاً من الله تعالى، فأعلمهم الله تعالى مخاطباً لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يرسل إلى الأمم {إلا رجالاً}.
ولم يرسل ملكاً ولا غير ذلك، و{رجالاً} منصوب ب {أرسلنا} و{إلا} إيجاب، وقرأ الجمهور بضم الياء وفتح الحاء، وقرأت فرقة {يُوحِي} بضم الياء وكسر الحاء، وقرأ عاصم من طريق حفص وحده {نوحِي} بالنون وكسر الحاء، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة بن مصرف وأبي عبد الرحمن ثم قال تعالى: {فاسألوا}، و{أهل الذكر} هنا اليهود والنصارى، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن، وقال الأعمش وسفيان بن عيينة: المراد من أسلم منهم، وقال ابن جبير وابن زيد: {أهل الذكر} أهل القرآن.
قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان فيهما ضعف، لأنه لا حجة على الكفار في إخبار المؤمنين بما ذكر، لأنهم يكذبون هذه الصنائف، وقال الزجاج: {أهل الذكر} هنا أحبار اليهود والنصارى الذين لم يسلموا، وهم في هذه النازلة خاصة إنما يخبرون بأن الرسل من البشر، وإخبارهم حجة على هؤلاء، فإنهم لم يزالوا مصدقين لهم ولا يتهمون لشهادة لنا لأنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو كسر حجتهم من مذهبهم، لا أنّا افتقرنا إلى شهادة هؤلاء، بل الحق واضح في نفسه، وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألون ويستندون إليهم، وقوله {بالبينات} متعلق بفعل مضمر تقديره أرسلناهم بالبينات، وقالت فرقة الباء متعلقة ب {أرسلنا} في أول الآية، والتقدير على هذا وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً، ففي الآية تقديم وتأخير، {والزبر} الكتب المزبورة، تقول زبرت ودبرت إذا كتبت، و{الذكر} في هذه الآية القرآن، وقوله {لتبين} يحتمل أن يريد لتبين بسردك نص القرآن ما نزل، ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل، وشرحك ما أشكل مما نزل، فيدخل في هذا ما بينته السنة من أمر الشريعة، وهذا قول مجاهد.


هذه الآية لأهل مكة، وهم المراد ب {الذين} في قول الأكثر، وقال مجاهد: المراد نمرود بن كنعان، والأول أظهر، ونصب {السيئات} يحتمل وجهين: أحدهما أن ينصب بقوله {أفأمن} وتكون {السيئات} على هذا العقوبات التي تسوء من تنزل به، ويكون قوله {أن يخسف} بدلاً منها. والوجه الثاني أن ينصب ب {مكروا}، وعدي {مكروا} لأنه بمعنى عملوا وفعلوا، و{السيئات} على هذا معاصي الكفر وغيره، قاله قتادة، ثم توعدهم بما أصاب الأمم قبلهم من الخسف، وهو أن تبتلع الأرض المخسوف به ويقعد به إلى أسفل وأسند النقاش، أن قوماً في هذه الأمة، أقيمت الصلاة فتدافعوا الإمامة وتصلفوا في ذلك فما زالوا كذلك حتى خسف بهم، و{تقلبهم} سفرهم ومحاولتهم المعايش بالسفر والرعاية ونحوها، والمعجز المفلت هرباً كأنه عجز طالبه، وقوله {على تخوف} أي على جهة التخوف، والتخوف النقص ومنه قول الشاعر: [البسيط]
تخوف السير منها تامكاً فرداً *** كما تخوف عود النبعة السفن
والسفن المبرد ويروى أن عمر بن الخطاب خفي عليه معنى التخوف في هذه الآية، وأراد الكتب إلى الأمصار يسأل عن ذلك، حتى سمع هذا البيت، ويروى أنه جاءه فتى من العرب وهو قد أشكل عليه أمر لفظة التخوف، فقال له يا أمير المؤمنين: إن أبي يتخوفني مالي، فقال عُمر: الله كبر {أو يأخذهم على تخوف}، ومنه قول طرفة:
وجامل خوف من نبيه *** زجرُ المعلى أبداً والسفيح
ويروى من نبته، ومنه قول الآخر: [الوافر]
ألأم على الهجاء وكل يوم *** تلاقيني من الجيران غول
تخوف غدرهم مالي وهدي *** سلاسل في الحلوق لها صليل
يريد الأهاجي، ومنه قول النابغة: [الطويل]
تخوفهم حتى أذل سراتهم *** بطعن ضرار بعد قبح الصفائح
قال القاضي أبو محمد: وهذا التنقص يتجه الوعيد به على معنيين: أحدهما أن يهلكهم ويخرج أرواحهم على تخوف أي أفذاذاً ينقصهم بذلك الشيء بعد الشيء، وهذا لا يدعي أحد أنه يأمنه، وكأن هذا الوعيد إنما يكون بعذاب ما يلقون بعد الموت، وإلا فبهذا تهلك الأمم كلها، ويؤيد هذا قوله {فإن ربكم لرؤوف رحيم} أي إن هذه الرتبة الثالثة من الوعيد، فيها رأفة ورحمة وإمهال ليتوب التائب ويرجع الراجع: والآخر أن يأخذ بالعذاب طائفة أو قرية ويترك أخرى، ثم كذلك حتى يهلك الكل، وقالت فرقة: التخوف هنا من الخوف أي يأخذهم بعد تخوف ينالهم فيعذبهم به.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا القول تكلف ما، وقوله {أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء} الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {أو لم يروا} بالياء على لفظ الغائب، وكذلك في العنكبوت، فهي جارية على قوله: {أو يأخذهم}، وقوله: {أو يأتيهم} وقوله: {لا يشعرون}، ورجحها الطبري، وقرأ حمزة والكسائي {أولم تروا} بالتاء في الموضعين، وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن، وذلك يحتمل من المعنى وجهين أحدهما: أن يكون على معنى قل لهم يا محمد أولم تروا، والوجه الآخر أن يكون خطاباً عاماً لجميع الخلق ابتدأ به القول آنفاً، وقرأ عاصم في النحل بالتاء من فوق، واختلف عنه في العنكبوت، وقوله {من شيء} لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله {يتفيأ ظلاله} لأن ذلك صفة لما عرض العبرة في جميع الأشخاص التي لها ظل، والرؤية هنا هي رؤية القلب، ولكن الاعتبار برؤية القلب إنما تكون في مرئيات بالعين، وقرأ أبو عمرو وحده {تتفيأ} بالتاء من فوق، وهي قراءة عيسى ويعقوب، وقرأ الجمهور {يتفيأ}، قال أبو علي: إذا تقدم الفعل المنسوب إلى مثل هذا الجمع فالتذكير والتأنيث فيه حسنان، وفاء الظل رجع بعكس ما كان إلى الزوال، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال إنما هي في نسخ الظل العام قبل طلوعها، فإذا زالت ابتدأ رجوع الظل العام، ولا يزال ينمو حتى تغيب الشمس، فيعم، والظل الممدود في الجنة لم يذكر الله فيئه لأنه لم يرجع بعد أن ذهب، وكذلك قول حميد بن ثور:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه *** ولا الفيء من برد العشي تذوق
فهو على المهيع، وكذلك قول علقمة بن عبدة: [الطويل]
تَتَبع أفياء الظلال عشية *** على طرق كأنهن سيوف
وكذلك قول امرئ القيس:
يفيء عليها الظل ***
وأما النابغة الجعدي فقال: [الخفيف]
فسلام الإله يغدو عليهم *** وفيء الفردوس ذات الظلال
فتجوز في أن جعل الفيء حيث لا رجوع، وقال رؤبة بن العجاج: يقال بعد الزوال فيء وظل، ولا يقال قبله إلا ظل فقط، ويقال فاء الظل أي رجع من النقصان إلى الزيادة، ويعدى فاء بالهمزة كقوله تعالى: {ما أفاء الله} [الحشر: 7] ويعدى بالتضعيف فيقال أفاءه الله وفياه الله وتفيأ مطاوع فيا، ولا يقال الفيء إلا من بعد الزوال في مشهور كلام العرب، لكن هذه الآية الاعتبار فيها من أول النهار إلى آخره، فكأن الآية جارية في بعض التأويلات على تجوز كلام العرب واقتضائه وضع تتفيأ مكان تتنقل وتميل، وأضاف الظلال إلى ضمير مفرد حملاً على لفظ ما أو لفظ شيء، وهو في المعنى لجمع، وقرأ الثقفي {ظُلَلُه} بفتح اللام الأولى وضم الثانية وضم الظاء، وقوله {عن اليمين والشمائل} أفرد اليمين وهو يراد به الجمع، فكأنه للجنس، والمراد عن الأيمان والشمائل، كما قال الشاعر: [جرير]
الواردون ونِيمٌ في ذرى سبأ *** قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وكما قال الآخر:
ففي الشامتين الصخر إن كان هدني *** رزية شبلي مخدر في الضراغم
والمنصوب للعبرة في هذه الآية هو كل شخص وجرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على جهة الاستعارة لغير البشر، أي تقدره ذا يمين وشمال، وتقدره يستقبل أي جهة شئت، ثم تنظر فيه فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال، وذلك في كل أقطار الدنيا، فهذا وجه يعمم لك ألفاظ الآية، وفيه تجوز واتساع، ومن ذهب إلى أن {اليمين} من غدوة النهار إلى الزوال ثم يكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال، وهو قول قتادة وابن جريج، فإنما يترتب له ذلك فيما قدره مستقبل الجنوب، والاعتبار في هذه الآية عندي إنما هو المستقبل الجنوب، وما قال بعض الناس من أن {اليمين} أول وقعة للظل بعد الزوال، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمال، ولذلك جمع {الشمائل}، وأفرد {اليمين}، فتخليط من القول يبطل من جهات، وقال ابن عباس إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلاً، ثم بعث الله الشمس عليه دليلاً فقبض إليه الظل.
قال القاضي أبو محمد: فعلى هذا فأول ذرور الشمس فالظل عن يمين مستقبل الجنوب ثم يبدأ الانحراف فهو عن الشمائل لأنها حركات كثيرة، وظلال متقطعة، فهي شمائل كثيرة، وكأن الظل عن اليمين متصلاً واحداً عاماً لكل شيء، وفي هذا القول تجوز في تفيأ، وعلى ما قدرنا من استقبال الجنوب يكون الظل أبداً مندفعاً عن اليمين إلى الزوال، فإذا تحرك بعد فارق الأيمان جملة وصار اندفاعه عن الشمائل، وقالت فرقة الظلال هنا الأشخاص هي المراد أنفسها، والعرب تعبر أحياناً عن الأشخاص بالظل، ومنه قول عبدة بن الطيب: [البسيط]
إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية *** وفار للقوم باللحم المراجيل
وإنما تنصب الأخبية، ومنه قول الآخر: [الطويل]
تتبع أفياء الظلال عشية *** أي أفياء الأشخاص.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله محتمل غير صريح، وإن كان أبو علي قد قدره، واختلف المتأولون في هذا السجود فقالت فرقة هو سجود عبادة حقيقة، وذكر الطبري عن الضحاك قال إذا زالت الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت أو شجر، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت، وقال مجاهد إنما تسجد الظلال لا الأشخاص وقالت فرقة، منهم الطبري عبر عن الخضوع والطاعة وميلان الظل ودورانها بالسجود، وكما يقال للمشير برأسه على جهة الخضوع والطاعة وميلان الظل ساجد ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فكلتاهما خرت وأسجد رأسها *** كما سجدت نصرانة لم تحنف
والداخر المتصاغر المتواضع، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل]
فلم يبق إلا داخر في مُخَيِّس *** ومنجحر في غير أرضك في حجر


وقعت {ما} في هذه الآية لما يعقل، قال الزجاج: قوله {ما في السماوات} يعم ملائكة السماء وما في السحاب وما في الجو من حيوان، وقوله {وما في الأرض من دابة} بين، ثم ذكر ملائكة الأرض في قوله {والملائكة} ويحتمل أن يكون قوله: {والملائكة} هو الذي يعم السماوات والأرض، وما قبل ذلك لا يدخل فيه ملك، إنما هو للحيوان أجمع، وقوله {يخافون ربهم} عام لجميع الحيوان، وقوله {من فوقهم} يحتمل معنيين: أحدهما الفوقية التي يوصف بها الله تعالى فهي فوقية القدر والعظمة والقهر والسلطان، والآخر أن يتعلق قوله {من فوقهم} بقوله {يخافون}، أي يخافون عذاب ربهم من فوقهم، وذلك أن عادة عذاب الأمم إنما أتى من جهة فوق، وقوله {ويفعلون ما يؤمرون} أما المؤمنون فبحسب الشرع والطاعة، وأما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما نفد من أمر الله تعالى، وقوله {وقال الله} الاية، آية نهي من الله تعالى عن الإشراك به ومعناها لا تتخذوا إلهين اثنين فصاعداً، بما ينصه من قوله {إنما هو إله واحد}، قالت فرقة المفعول الأول ب {تتخذوا} قوله {إلهين}، وقوله {اثنين} تأكيد وبيان بالعدد، وهذا معروف في كلام العرب أن يبين المعدود وبذكر عدده تأكيداً، ومنه قوله {إله واحد} لأن لفظ {إله} يقتضي الانفراد، وقال قوم منهم: المفعول الثاني محذوف تقديره معبوداً أو مطاعاً ونحو هذا، وقالت فرقة: المفعول الأول {اثنين}، والثاني قوله {إلهين}، وتقدير الكلام لا تتخذوا اثنين إلهين، ومثله قوله تعالى {ألا تتخذوا من دوني وكيلاً ذرية من حملنا مع نوح} [الإسراء: 2-3] ففي هذه الآية على بعض الأقوال تقديم المفعول الأول ل {تتخذوا}، وقوله {فإياي} منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ولا يعمل فيه الفعل لأنه قد عمل في الضمير المتصل به، وقوله {وله ما في السموات} الآية، الواو في قوله {وله} عاطفة على قوله: {إله واحد}، وجائز أن يكون واو ابتداء، و{ما} عامة جميع الأشياء مما يعقل ومما لا يعقل، و{السماوات} هنا كل ما ارتفع من الخلق في جهة فوق، فيدخل فيه العرش والكرسي، و{الدين} الطاعة والملك كما قال زهير في دين عمرو: وحالت بيننا فدك. أي في طاعته وملكه والواصب القائم، قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وقال الشاعر [أبي الأسود]: [الكامل]
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه *** يوماً بذم الدهر أجمع واصبا
ومنه قول حسان: [المديد]
غيرته الريح تسفي به وهزيم رعده واصب ***
وقالت فرقة: هو من الوصب وهو التعب، أي وله الدين على تعبه ومشقته.
قال القاضي أبو محمد: ف واصب على هذا جار على النسب أي ذا وصب، كما قال: أضحى فؤادي به فاتناً، وهذا كثير، وقال ابن عباس أيضاً: الواصب الواجب، وهذا نحو قوله: الواصب الدائم، وقوله {أفغير}، توبيخ ولفظ استفهام ونصب غير ب {تتقون}، لأنه فعل لم يعمل في سوى غير المذكورة، والواو في قوله {وما بكم} يجوز أن تكون واو ابتداء، ويجوز أن تكون واو الحال، ويكون الكلام متصلاً بقول {أفغير الله تتقون}، كأنه يقال على جهة التوبيخ: أتتقون غير الله وما منعم عليكم سواه، والباء في قوله {بكم} متعلقة بفعل تقديره وما نزل أو ألم ونحو هذا، و{ما} بمعنى الذي، والفاء في قوله {فمن الله} دخلت بسبب الإبهام الذي في {ما} التي هي بمعنى الذي، فأشبه الكلام الشرط، ومعنى الآية التذكير بأن الإنسان في جليل أمره ودقيقه إنما هو في نعمة الله وأفضاله، إيجاده داخل في ذلك فما بعده، ثم ذكر تعالى بأوقات المرض لكون الإنسان الجاهل يحس فيها قدر الحاجة إلى لطف الله تعالى، و{الضر} وإن كان يعم كل مكروه فأكثر ما يجيء عبارة عن أرزاء البدن، و{تجأرون} معناه ترفعون أصواتكم باستغاثة وتضرع، وأصله في جؤار الثور والبقرة وصياحها، وهو عند جهد يلحقها أو في أثر دم يكون من بقر تذبح، فذلك الصراخ يشبه به انتحاب الداعي المستغيث بالله إذ رفع صوته، ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
يراوح من صلوات الملي *** ك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا
وأنشده أبو عبيدة:
بأبيل كلما صلى جأر ***
والأصوات تأتي غالباً على فعال أو فعيل: وقرأ الزهري {يجَرَون} بفتح الجيم دون همز حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الجيم، كما خففت {تسلون} من {تسألون}، وقوله {ثم إذا كشف الضر} قرأ الجمهور {كشف}، وقرأ قتادة {كاشف}، ووجهها أنها فاعل من واحد بمعنى كشف وهي ضعيفة، و{فريق} هنا يراد به المشركون الذين يرون أن للأصنام أفعالاً من شفاء المرض وجلب الخير ودفع الضر، فهم إذا شفاهم الله عظموا أصنامهم، وأضافوا ذلك الشفاء إليها، وقوله {ليكفروا} يجوز أن يكون اللام لام الصيرورة أي فصار أمرهم ليكفروا، وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا، ويجوز أن تكون لام أمر على معنى التهديد والوعيد، كقوله {اعملوا ما شئتم} [فصلت: 40] والكفر هنا يحتمل أن يكون كفر الجحد بالله والشرك، ويؤيده قوله: {بربهم يشركون}، ويحتمل أن يكون كفر النعمة وهو الأظهر، لقوله: {بما آتيناهم} أي بما أنعمنا عليهم، وقرأ الجمهور {فتمتعوا فسوف تعلمون} على معنى قل لهم يا محمد، وروى أبو رافع عن النبي عليه السلام {فيُمتعوا} بياء من تحت مضمومة {فسوف يعلمون} على معنى ذكر الغائب وكذلك في الروم، وهي قراءة أبي العالية، وقرأ الحسن {فتمتعوا} على الأمر {فسوف يعلمون} بالياء على ذكر الغائب، وعلى ما روى أبو رافع يكون {يمتعوا} في موضع نصب عطفاً على {يكفروا} إن كانت اللام لام كي، أو نصباً بالفاء في جواب الأمر إن كانت اللام لام أمر، ومعنى التمتع في هذه الآية بالحياة الدنيا التي مصيرها إلى الفناء والزوال.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8